الاثنين، 27 مارس 2017

مالكم ??

خليفة مزضوضي 
مالكم لاترجون لله وقارا

نحن اليوم في مجتمعات مفتوحة : مفتوحة على ثقافات وديانات وعلوم وقيم وأشخاص نلتقي بهم في العالم الحقيقي و في العالم الافتراضي، نحاورهم ويحاوروننا، نقتبس منهم ويقتبسون منّا، نؤثر فيهم ونتأثر بهم،نربط معهم علاقات عاطفية أو تجارية أو ثقافية، يتدخلون في تربية أبنائنا شئنا أم أبينا.
لكن بالرغم من أن تكنولوجيا الاتصال أسقطت كل تلك الحدود، فإن الشعوب والقبائل والمجتمعات تبتكر وسائل وآليات للحفاظ على هويتها، ولعل أنجع اداة لذلك أداة الدولة، فهي تشرّع القوانين للحفاظ على شخصيتها من الذوبان، وفي هذا السياق يجب أن نقرأ القوانين التي تسنّها بعض الدول الغربية لمنع المآذن أو الحجاب والنقاب في بعض المؤسسات وأحيانا في الفضاء العام، بالرغم من أن سنّ تلك القوانين يتنافى مع مبادئها في تقديس الحريات الفردية.
ثمّ يأتي الدور الحيوي للمجتمع المدني في تلك الممانعة، فتنظم التظاهرات والاحتجاجات السلمية من أجل الدفاع عن قيمة من قيم المجتمع التي يراها مستهدفة، كما رأينا في مسيرات ضخمة بشوارع فرنسا احتجاجا على قانون ترسيم زواج المثليين، لأن المجتمع الفرنسي رأى في ذلك استهدافا مباشرا لنظام الأسرة القديم؛ وقد تكون تلك الممانعة عبر الإعلام أو المشاريع التي تتقدم بها الأحزاب المشاركة في العملية الديمقراطية أو غيرها من الآليات التي تبتكرها الدول والمجتمعات.
وبما أن الدين يعتبر أهم مكونات شخصية الدولة والمجتمع عند الشعوب الإسلامية، فإن للمؤسسة الدينية ـ أعني مؤسسة الإفتاء أو الفقهاء ـ دورا كبيرا في تلك الممانعة والحفاظ على الهوية، لأن ما تصدره من فتاوى وأحكام قد يعرف طريقه للتقنين فيصبح ملزما، وحتى إذا لم يمرّ عبر المجلس التشريعي، فإن له سلطانا معنويا على قلوب المؤمنين لأنه حكم مرتبط بالحلال والحرام أي بالمصير في الآخرة.
ومن أهمّ الأدوات التي استعملتها المؤسسة الدينية في الحفاظ على هوية المجتمع، الحكم بالردّة أو الكفر على فعل أو على معيّن؛ بل هي الأداة التي استعملها القرآن بكثافة وهو يبني أمّة جديدة بعقائد وقيم وأخلاق ومبادئ جديدة تميّزها عن الأمم المخالطة لها من المشركين واليهود والنصارى؛ وهذا لم يمنع من التعايش بين مكوّنات المجتمع الواحد والاحترام المتبادل بين الكفار والمسلمين، بل والحوار في قضايا العقيدة وغيرها فضلا عن المصاهرة والتبادل التجاري، والكثير من الإسرائيليات تسرّبت إلى ثقافتنا جرّاء الحوار الذي كان يدور بين الصحابة وأهل الكتاب، ثم تسرّبت فيما بعد فلسفة اليونان إلى ثقافتنا بنفس السبب.
و لمّا نشأت حركة النفاق في المدينة، واجهها القرآن بالبيان والحجة والبرهان، حيث هتك أستارهم دون أن يسمّيهم أو يصادرهم حقا من حقوقهم الدنيوية، وجعل أمرهم إلى ربهم، لا يجوز لآحاد الناس الحكم على بواطنهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، إذا رأى غيرة من أصحابه وهم يرون سلوك المنافقين المستفزّ ويقترحون عليه أن ينفذ فيهم حكم الردّة، يقول صلى الله عليه وسلم : “أتريدون أن يقول الناس محمدا يقتل أصحابه؟”.
عن أسامة بن زيد (وكان يلقب الحبّ بن الحبّ) قال: “بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة، فصبّحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار رجلا منهم، فلما غشيناه قال: لا إله إلا الله فكفّ الأنصاري، فطعنته برمح حتى قتلته، فلما قدمنا بلغ النبي ذلك، فقال: (يا أسامة أقتلته بعد ما قال: لا إله إلا الله؟) قلت كان متعوذًا، فما زال يكررها الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم”. ثم قال أسامة للرسول صلى الله عليه وسلم: “إني أعطي الله عهدًا، ألا أقتل رجلا يقول: لا إله إلا الله أبدًا”، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (: (بعدي يا أسامة؟) قال: بعدك…متفق عليه.
لكن الذي حصل فيما بعد أن التكفير أصبح أداة سياسية لتصفية الخصوم ومصادرة حق المعارضة في إبداء رأيها، وتمّ تطويع مؤسسة العلماء لتصدر أحكاما بتكفير هذا وغض الطرف عن ذاك بحسب هوى الحاكم، ولا شك أن القضاء ملزم بأخذ رأي الفقهاء في أمور الدين؛ وحتى وإن لم يكن هذا هو الأمر الغالب على الحاكم في التاريخ الإسلامي، بخلاف ما عرفته أوروبا القرون الوسطى من محاكم التفتيش السيئة الذكر، فالواجب إنكاره أشد الإنكار، ووضع كل الضمانات القانونية والأخلاقية لحفظ حق المخالف في العيش وإبداء الرأي.
أما اليوم فأن المؤسسة الدينية الرسمية ابتعدت نهائيا عن “التكفير” وتركت الحبل على الغارب، في مجتمعات مفتوحة كما ذكرنا، تنتقل فيها الأفكار كما تنتقل السلع، فتولى هذا الأمر (أعني التكفير) جماعات أو دعاة أفراد،أو جهّال، يكفّرون وربما ينفذون حكم الردّة في أشخاص بعينهم، فصارت فتنة عياذا بالله.
الذين لهم غيرة على الدين يرون الاستهزاء و الطعن بالأنبياء أو بالملائكة أو بالله وكتابه، ولا يلمسون ردة فعل من المؤسسة الدينية الرسمية؛ في حين يرون تحريك قضايا أمام المحاكم ضد من يستهزأ بعرق أو طائفة أو نحلة، وتخرج التظاهرات والمسيرات من أجل التنديد بنكتة أو كلمة من مسؤول خانه التعبير في قضية تتعلق بهوية إثنية أقلية كانت أو أغلبية؛ وقد يقبل منه الاعتذار وقد لا يقبل؛ لكن عندما يتعلق الأمر بالاستهزاء بالدين يصبح الأمر إبداعا وحداثة وحرية تعبير، يا سلام..
يجب ألا نتوسّع في التكفير، وألا يصدر من غير جهة رسمية، وأن نجرّم القذف والاستهزاء بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وأن تكون قوانيننا واضحة في ذلك، وأن نفتح صدورنا في المقابل للنقاش الجدّي بغير خطوط حمراء، يكون حوارا حول كل القضايا، في العقيدة والأخلاق والعبادات وغيرها، شريطة أن يمثل الرأي والرأي الآخر، في الجامعات والإذاعات والصحف والقنوات التلفزية : يتكلم الملحد والمؤمن، المسيحي والمسلم، الأمازيغي والعروبي، الحداثي والأصولي، رجل الدين ورجل السياسة..
ولا نبدأ بالصراعات التاريخية فإنها فخّ لإفشال كل حوار، وهي التي أفشلت الحوار بين السنّة والشيعة.
أذكر أن شيعيا دخل معي في حوار وأنا بالمسجد النبوي الشريف، فكان يسمع منّي أكثر مما يتكلم، ومما قلته له أنكم عجزتم عن مدّ الجسور مع السنّة لأنكم تسبون الصحابة وتقذفون أمهات المومنين، وتحملون ثقل الصراع التاريخي وتذكّرون به في مجالسكم ومدارسكم وجامعاتكم، يكبر فيه الصغير ويهرم فيه الكبير؛ مع أن الله عز وجل حسم هذا الأمر بقوله : (تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم، ولا تسألون عمّا كانوا يعملون)؛ فهل الله عزّ وجل سيسألنا عن معركة الجمل وصفين؟ وعن خلاف علي ومعاوية وأمنا عائشة رضي الله عنهم، حتى نجعل هذه القضايا من صميم الدين؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق