خليفة مزضوضي مدير أكاديمية الأنطاكي الدولية الخاصة للبحث والتدريب والإبتكار والتنمية وتنمية القدرات
الدعوات التي رفعناها الى السماء ونحن تلاميذ صغار تاخرت، لكنها وصلت والحمد لله. قبل اكثر من ثلاثة عقود، كنا نتضرع باكفنا الطرية الى الله عز وجلّ، كي تضرب المدرسة جائحة وتتوقف الدراسة، لنتفرغ الى احسن نشاط عرفته البشرية منذ بدء الخليقة: اللعب.
لم تكن هناك هواتف ولا “تابلات” ولا انترنيت، ولم تكن لدينا غرف مليئة بالدببة الصوفية وشاحنات الإطفاء الصغيرة وسيارات البوليس التي تصفر… لكننا كنا نحب اللهو، ونقضي وقتنا طويلا ونحن نصنع العابنا بايدينا البضة. ناخذ عجلة ونقودها بسلك حديدي بين الازقة كاننا نسوق دراجة حقيقية، نمزق “شامبرير” ونصنع “جبادا” نصطاد به العصافير، نقطع برميل زيت ونربطه بعصا طويلة ونشتري مترين من “السبيب” ثم نصنع قيثارة تعزف اعذب الالحان. الحان غير مرتبة لكنها كافية كي تجعلنا نرقص ونمرح حتى ساعات متاخرة من النهار. “نتناقش” في “كرة بلاستيكية” ونلعب “البي” و”السلسة” و”التعاون الوطني” و”ركبو ركبو على خيولكم”…
كنا نؤمن بالله واليوم الاخر والقدر خيره وشره، ونكره كل ايام الاسبوع باستثناء الجمعة والاحد، يومي العطلة المدرسية، ولا نتردد في الذهاب الى المسجد كي نصلي ونطلب من العزيز الجبار ان يحقق امنياتنا البريئة، وفي مقدمتها تعطل الدراسة والدخول في عطلة لا تنتهي. نطيل السجود ما امكن كي نمرر دعواتنا السرية الى الواحد القهار. في كل سجدة نستعرض ملفا مطلبيا طويلا، مستعينين بكل ما نملك من تركيز وخشوع، نطلب منه ان يعفينا من الدراسة، أن نعثر على قطع نقدية في الشارع، أن يرزقنا دكانا كاملا من الحلوى، أن يبث التلفزيون رسوما متحركة بلا توقف، أن نفتح الصنبور وتتدفق منه كوكاكولا… وغيرها من المعجزات الصغيرة، التي لم تتحقق مع الاسف، باستثناء واحدة: ان نكبر بسرعة.
كانت المدرسة جدية لدرجة القسوة. كثير من المعلمين لا يترددون في تعذيب التلاميذ الصغار بكل الوسائل. الفصول تشبه ورشة حدادة او مرآبا لاصلاح السيارات، بسبب وجود أدوات غريبة، بجوار الطباشير والممسحة والكوس والمسطرة: اعمدة حديدية، قطع من عجلات، انابيب مطاطية، حبال غليظة، أغصان اشجار… لم يترك الساديون أداة تعذيب لم يجربوها على ايدي وضلوع ابناء الفقراء، بتواطؤ مع آبائهم. أشهر صفقة في تاريخ المدرسة العمومية كانت بين المدرس والوالد وتتضمن بندا واحدا: “انت دبح وانا نسلخ!”
كانت حصص التعذيب تخلف اثارا على اجساد الصغار، لكنهم “يكمّدون” ضلوعهم، ويعودون الى البيت كأن شيئا لم يكن، متحاشين ان يكتشف الاباء كدماتهم، لأنهم سيتعرضون للتعنيف مرة ثانية. المعلم دائما على حق… الحقيقة ان مدرسي ذلك الزمان، رغم الاستعمال المفرط للقوة، كان يحظون بالاحترام والهيبة، لانهم يؤدون رسالتهم بمنتهى الاخلاص، ويتعاملون مع التلاميذ كأنهم ابناؤهم. لا ننسى ان العنف كان رائجا في الاسرة والمدرسة، على حد سواء. من ضربك يريد مصلحتك. “نضربك ومانخلي اللي يضربك”، من اشهر شعارات المرحلة. كان يكفي ان ترى المعلم مارا في الطريق كي تغير الوجهة، او تذهب عنده بسرعة كي تقبل يده باجلال وتقدير. يكفي ان يكون الشخص في عمر والدك كي تبوس يده وتقول له “عمي”. لقد تغير المجتمع، ماتت قيم وولدت اخرى، ليست بالضرورة احسن. فيما مضى، لم يكن الناس يغلقون ابوابهم، وعندما ينظم احدهم عرسا او حفلة، يستعمل بيت جيرانه دون مشكلة. كل سكان الحي مدعوون تلقائيا للرقص والاكل وتقرقيب الناب، دون بروتوكولات، ودون حاجة لدعوات محشورة بعناية في ظرف مزركش. لقد تغير المغاربة كثيرا، وهجروا التعليم العمومي، بعد ان اصابه التلف، وتعرضت المدرسة التي تخرج منها خيرة ابناء البلاد الى الافلاس. حلت مكانها مدارس خصوصية، تستنزف جيوب الجيل الذي تمنى يوما ان تتهدم المدرسة كي يصبح في عطلة مفتوحة.
هاهي الجائحة ضربت المدرسة، استجابة للدعوات التي رفعتها أجيال التعليم العمومي، في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، وهاهي الدراسة تعطلت… المشكلة ان الاستجابة جاءت متاخرة جدا، بعد أن اصبح المعلم يخاف من التلميذ، ولا يستطيع ان يعاتبه على خطإ او تصرف، دون ان يفكر في العواقب، ولم يعد التلميذ يخشى الذهاب الى المدرسة. لقد تحققت “المعجزة”، لكن بعد ان تحول اصحاب “الدعوى” الى اباء وامهات، وفاتهم سن اللعب، وعليهم اليوم ان يتدبروا امور أبنائهم مع “التعليم عن بعد” او “الحضوري” او “نصف الحضوري”… انه جيل منحوس، “رفع دعوى وخرجات فيه”
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق