خليفة مزضوضي من مراكش
الملك يضع خطوطا حمراء لمُعَدِّلي مُدونة الأسرة.. وينبه لهذا الأمر .
ما إن أعطى الملك محمد السادس، الثلاثاء الماضي، أمره لرئيس الحكومة عزيز أخنوش، بالشروع في إعادة النظر بمدونة الأسرة حتى احتدم الجدل وتناسلت التوقعات بل والإشاعات بشأن التعديلات التي يُرتقب أن تشهدها المدونة.
حيث تشهد الساحة الوطنية صراعا حامي الوطيس، بين أغلبية إسلامية لا يكاد يسمع صوتها إلا في منابر إعلامية معدودة، وبين أقلية علمانية حداثية مرفوضة اجتماعيا وقِيَّميا، غير أنها تتمتع بحضور قوي ومؤثر في وسائل الإعلام العمومية والخاصة على حد سواء.
وفي هذا السياق ارتأينا -تنويرا للرأي العام، وتنبيها لمن يهمه الأمر- أن نذكر بضوابط صارمة حددها – بوضوح تام لا يقبل التأويل – خطاب العرش الذي ألقاه الملك محمد السادس في 30 يوليوز 2022، والذي دعا من خلاله إلى تعديل مدونة الأسرة، بعد مرور عقدين على دخولها حَيّز التنفيذ.
فبعد أن استهل الملك خطابه بالتذكير بالأساس القوي المتين الذي تقوم عليه الدولة المغربية وهو “روابط البيعة المتبادلة، بين العرش والشعب”، والتنويه بـ“التلاحم الوثيق [بينهما]، عبر التاريخ، في السراء والضراء”، شرع الملك محمد السادس في الحديث عن دواعي إعادة النظر في مدونة الأسرة، واضعا لتعديلها أُطُرًا وخطوطا حمراء لا ينبغي التجاسر على اقتحامها؛ نظرا لما تشكله من خطورة كبيرة على تماسك المجتمع المغربي ولُحمَته.
وفي هذا الصدد أكد الملك على أن المدونة، عكس اعتقاد فئة من الموظفين ورجال العدالة، هي “ليست مدونة للرجل، كما أنها ليست خاصة بالمرأة؛ وإنما هي مدونة للأسرة كلها؛ فالمدونة تقوم على التوازن، لأنها تعطي للمرأة حقوقها، وتعطي للرجل حقوقه، وتراعي مصلحة الأطفال”.
وهذا التصور الواضح والشامل للغرض من وضع المدونة يكشف مقدار السذاجة والتسطيح والتبسيط الذي تنظر من خلاله بعض التوجهات الحداثية والنَّسوِية لمدونة الأسرة، والتي تحولت عند هؤلاء إلى مجرد أداة لتصفية الحسابات، وتدبير صراع طاحن بين الجنسين.
كما أكد الملك في ذات الخطاب – بلسان عربي مبين – على أنه وبصفته أميرا للمؤمنين ” لن يحل ما حرم الله، ولن يحرم ما أحل الله”. وهو ما يُغلق الباب تماما في وجوه كثير من المطالب الحداثية والنسوية التي تهدف لتحليل الحرام (المساواة في الإرث …)، وتحريم الحلال (المنع التام لتعدد الزوجات ..)، في مصادمة صريحة وواضحة لقطعيات الشريعة الإسلامية السمحة.
وشدد الملك محمد السادس كذلك على أن أي تعديل للمدونة يجب أن يتم في ” إطار مقاصد الشريعة الإسلامية”، وفي مراعاة واحترام تام لـ“خصوصيات المجتمع المغربي”.
وهذا الإطار المهم يعد بمثابة فرامل قوية بوجه التيارات النسوية والحداثية التي تسعى لفرض التشريعات والقيم الغربية على المغاربة بقوة الدولة والقانون تحت مسميات خَدَّاعة من قبيل “القيم الكونية لحقوق الإنسان”، واحترام “الحريات الفردية”، وغيرها من الشعارات البراقة التي ما أن يُمْعِن فيها الإنسان النظر حتى يجدها مجرد وسائل لتكريس الهيمنة الغربية ومحو كل الخصوصيات والهويات والقيم التي تحاول الوقوف في وجهها والحد من تمددها.
هذا، وقد عاد الملك محمد السادس في خطاب العرش لسنة 2023 ليؤكد على أن المغرب يشكل ” دولة – أمة، تضرب جذورها في أعماق التاريخ”.
ودول هذا شأنها تكون دائما نَزَّاعة للاعتزاز بخصوصيتها وتفرُّدها، ولا تجدها إلا معتزة بشرائعها وقيمها التي تميزها عن نظيرتها من الدول والممالك العريقة، من غير انغلاق تام على الذات ولا انفتاح غير مستبصر على الغير.
وهذا ما نص عليه الملك في ذات الخطاب قائلا ” والمغاربة معروفون، والحمد لله، بخصال الصدق والتفاؤل، وبالتسامح والانفتاح، والاعتزاز بتقاليدهم العريقة، وبالهوية الوطنية الموحدة”.
وفي أمر بدا لافتا ومثيرا للانتباه، ويجب ألا يغيب طرفة عين عن كل ما له صلة بتعديل مدونة الأسرة، وهو تخصيص الملك محمد السادس فقرة كاملة مستقلة من خطاب العرش لسنة 2023 ليحدث المغاربةَ كل المغاربةِ عما يشهده عالم اليوم من اهتزاز في منظومة القيم والمرجعيات، ويذكرهم بالإصالة المغربية.
يقول الملك محمد السادس:
” شعبي العزيز.. في ظل ما يعرفه العالم، من اهتزاز في منظومة القيم والمرجعيات، وتداخل العديد من الأزمات، فإننا في أشد الحاجة إلى التشبث بالجدية، بمعناها المغربي الأصيل:
-أولا: في التمسك بالقيم الدينية والوطنية، وبشعارنا الخالد: الله – الوطن – الملك؛
-ثانيا: في التشبث بالوحدة الوطنية والترابية للبلاد.
-ثالثا: في صيانة الروابط الاجتماعية والعائلية من أجل مجتمع متضامن ومتماسك.
-رابعا: في مواصلة مسارنا التنموي، من أجل تحقيق التقدم الاقتصادي، وتعزيز العدالة الاجتماعية والمجالية”.
وفي الختام نحب أن نلفت إلى أنه ما كان لتعديل المدونة أن يثير كل هذا الجدل والأخذ والرد لولا الخرجات المستفزة لبعض الوجوه الحداثية والنسوية المتطرفة التي تسعى إلى فرض مشروع مُجتمَعي تَغْرِيبِي على المغاربة بقوة الدولة والقانون، بل ويجاهر هؤلاء المتطرفون أمام كل الشعب المغربي المعتز بدينه وقيمه وتراثه بأن هدفهم الاستئصال التام للإسلام من المدونة، وجعلها مدونة علمانية حداثية خالصة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق