خليفة مزضوضي مدير أكاديمية الأنطاكي الدولية الخاصة للبحث والتدريب والابتكار والتنمية وتنميةالقدرات….!!!
تقدم السن بخليل الله إبراهيم عليه السلام، وتمنى على الله أن يمن عليه بذرية صالحة تخلفه، وتحمل النبوة من بعده، فتضرع إلى الله بالدعاء، (رب هب لي من الصالحين)، فكانت الإجابة (فبشرناه بغلام حليم).. ولما شبّ الولد واستأنس به الخليل، جاءه الأمر بذبحه، عبر رؤيا رآها، وقصها على ابنه إسماعيل، بلغة تقطر أدبا ومحبة، كما يحكيها القرآن الكريم، (قال: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى)، وبنفس الإيمان والعظمة يجيب إسماعيل: (يا أبت افعل ما تومر ستجدني إن شاء الله من الصابرين)، وتقدم الخليل لتنفيذ أمر الله، كما تلقاه، فجاءه الملك يحمل ذبحا وصف بالعظيم، وانتهت القصة بتهنئة النبي إبراهيم على ثباته وصدقه وقوة إيمانه.
هذه هي حكاية الأضحى، كما يسردها القرآن الكريم، في سورة الصافات، وهذه هي غاياتها العليا والجوهرية: الصدق في الإيمان، التطبيق العملي لمقتضيات هذا الإيمان، الأدب الجم في تلقي أمر الله، وفي عرضه على الابن إسماعيل، ثم في مباشرة التنفيذ، والتحلي بالصبر الجميل، وأخيرا الشهادة بالنجاح في الامتحان، (وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، إنا كذلك نجزي المحسنين)، هذه هي المعاني التي عاشها وتشربها النبي إبراهيم، صحبة ابنه إسماعيل، وحكاها لنا القرآن الكريم، ودعانا إلى التأسي بها. فأين نحن اليوم من هذه المعاني؟ أين نحن من المقاصد والغايات الكبرى التي وجدت من أجلها المواسم والشعائر الدينية ابتداء؟
لقد غابت المعاني كلية أو تكاد، ولم يبق هناك إلا المظاهر والأشكال الفارغة من كل مضمون صحيح وحقيقي. لقد اختزل الأضحى في الكبش، الذي تحول اقتناؤه إلى فريضة اجتماعية، وإلى تحدّ صعب، تخوضه الأسر كل عام، وإلى همّ يؤرق الآباء. وتحولت هذه الشعيرة عند الكثيرين إلى امتحان لإثبات الرجولة، وطلب الاستحقاق. ومن ثم، نتساءل: ما قيمة اللحم والشحم في غياب المعاني المرجوة من هذه المناسبة؟
لم يتحدث القرآن الكريم عما فعله إبراهيم عليه السلام بهذا الكبش العظيم الذي تلقاه، لأن أمر أكل اللحم ها هنا ليس مطلوبا لذاته، وهو متروك لعوائد الناس وتقاليدهم، وإنما انصرف القرآن إلى التأكيد على المهم فالأهم، مما يحيى به الناس حقيقة، وتبنى به الحضارات: الصدق الحقيقي، الفهم العميق لمعنى التدين، التطبيق العملي لمقتضيات الإيمان، الأخلاق الكريمة. لست أدري بأي منطق يتحدث بعض الوعاظ والخطباء، حين يحدثون المواطنين بأن توفير الأضحية سنة وليست بواجب، للقادرين عليها، جريا على رأي المالكية في الموضوع، ثم ينتقلون في الخطبة نفسها للحديث عن أهمية السنة، والتحذير من تضييعها، والتأكيد على الأمر بما يفيد ضرورة اقتنائها؛ وهو ما يزيد السامعين ارتباكا على ارتباكهم. فأين الفرائض أولا حتى نبحث عن السنن ونؤكد عليها؟ أين صدق إبراهيم وإيمانه الشامخ؟ أين فهمه العميق وأدبه الجم؟ وأين صبر إسماعيل وحسه الرفيع؟ أين ما يبشر به الدين من نظافة وأناقة في شوارعنا وأزقتنا أيام العيد؟ أين حسن الخلق في أسواقنا وتجمعاتنا، وأين وأين؟
يتحمل العلماء والوعاظ قسطا كبيرا من المسؤولية حين لا يبينون للناس حقيقة هذه الشعيرة، وفلسفة حكمها، ولا يجتهدون في ذلك بما يوافق واقعهم، وما يستجد لديهم من أقضية، وإلا لماذا يتكلف شراءها من لا يملك القدرة على ذلك؟ ولماذا يسأل الناس عن إمكانية اقتنائها عن طريق الاستدانة من الأبناك، مما يزيدهم شدة ومعاناة؟ و يتعرضون للاستغلال وابتزاز من مؤسسات القروض، التي يتضاعف نشاطها في مثل هذه المناسبات، مستغلة لهفة الناس وحرصهم على توفير أضحية العيد. أليس الأمر يتعلق بسنة؟ أليست السنن مبنية على التخفيف؟ فأين يتجلى هذا التخفيف في تعاملنا مع أضحية العيد؟ ألم يضح بلال بديك، ويذكر في السماء؟
لقد تحولت مناسبة عيد الأضحى عندنا إلى عادة اجتماعية مستحكمة، وإلى هوس ومغالبة؛ لأننا أضعنا المعنى، ونشكو خللا كبيرا في ترتيب الأولويات